الرياض، تحقيق- علي الزهيان
تنامت مؤخراً بين أوساط المعلمين ظاهرة النفور من التدريس، والبحث عن الأعمال والمناصب الإدارية، وذلك بعد أن شعر كثير منهم بالملل، حيث أصبحوا ينظرون إلى اليوم الدراسي على أنَّه يوم رتيب، وثقيل، لا تجديد فيه، فالمعلم ينتقل من حصة إلى أخرى داخل فصول مكتظة بأعداد كبيرة من الطلاب، في ظل أنظمة تعليمية قيدت حركته حتى جعلته عاجزاً عن إظهار قدراته ومواهبه، إلى جانب قلّة اهتمام وزارة التربية والتعليم بالمعلم، فلا حوافز تشجيعية ولا تكريم، بالإضافة إلى تحميله فوق عاتقه ما لا يطيق من قرارات، ومناهج، وحصص كثيرة تتعدى العشرين في الأسبوع الواحد، ومعها ما يشرف عليه المعلم من أعمال داخل المدرسة وأنشطة كثيرة يشارك فيها، في الوقت الذي أصبح فيه المعلم يتعامل مع نوعية من الطلبة أصبح همّ الكثير منهم النجاح بأية طريقة كانت دون الاهتمام بالتحصيل العلمي، وسط أجواء لم تعد تكفل للمعلم القدر الكافي من التقدير والاحترام.
ولعل المتتبع لأوضاع هذه الشريحة من المعلمين يلحظ أنّ هناك خللاً كبيراً في علاقة المعلم مع العملية التعليمية برمتها؛ مما يطرح سؤالاً عن مكمن الخلل، هل هو في ذهن المعلم نفسه؟، أم أنَّه في نظام التعليم؟، أم أنَّ الخلل في المناهج الدراسية؟.
روتين تربوي
وذكر «مضحي العنزي» -معلم- أنَّ المعلم بات يعاني من ضغوطات كثيرة وتغيّرات متسارعة وكبيرة ليست فقط على مستوى الكم الهائل من المعلومات الحديثة، بل إنَّ التغيرات لحقت بأخلاقيات وسلوك الطالب نفسه، الأمر الذي صَعَّب من العملية التعليمية، لافتاً إلى أنَّ هناك تغييراً كبيراً أصبح المعلم يشعر به على مستوى المناهج، وعلى صعيد الطريقة التي أصبحت تسير بها العملية التعليمية، كما أنَّ هناك حلقة مفقودة في التعامل مع المقررات الدراسية الجديدة التي طالها التطوير، بشكل أصبح فيه كثير من المعلمين غير قادرين على التكيف معها، نتيجة ضعف تأهيل وتدريب المعلمين على التعاطي معها بالشكل المأمول؛ مما خلق شرخاً كبيراً في العلاقة ما بين وزارة التربية والتعليم وبين المعلم، مُشيراً إلى أنَّ هناك ضغوطات كبيرة تُمارس على المعلم بشكل جعل الكثير من المعلمين يفكرون وبجدية في ترك مهنة التدريس، والتحول إلى مناصب وأعمال إدارية، وذلك في ظل الروتين الذي طغى على المشهد العام للميدان التربوي، وهو ما قلّل من اهتمام المعلم بالتجديد والتطوير، حيث أصبح المعلم يشعر بأنَّه تابع مُسيَّر لا مسؤول مُخيَّر.
تأثير على التعليم
وبيّن «عبدالله السراء» -مرشد طلابي- أنَّ العديد من الدراسات البحثية في المجال التربوي أجمعت على ضرورة الاهتمام بالمعلم بإعتباره العامل الأساس لكافة استراتيجيات وخطط تطوير التعليم، كما أنَّه تمَّ التركيز على أهمية إعداده، وتنميته، وتأهيله، لضمان نجاح كافة الخطط لتطوير المنظومة التعليمية، مُضيفاً أنَّ الأمر الذى لم تتنبه له معظم تلك الدراسات أنَّ هذا المعلم إنسان كبقية البشر له مشاكله الخاصة وهمومه الشخصية التى بسببها قد يتعرض لحالة حادة من الملل، والتي من الممكن أن تؤثر عليه بشكل سلبي، وقد ينعكس ذلك على نظرته لمهنته، الأمر الذي يجعله يفكر في البحث عن البدائل الأخرى التي قد تجعله أكثر ارتياحاً على الصعيد النفسي، ومن ذلك تفكيره في التحوُّل إلى أعمال إدارية قد يرى أنّها أقل وطأة من مهنة التدريس، مُنوهاً بأنَّه متى ما وصل المعلم إلى تلك القناعة فإنَّ عليه أن يسعى جاهداً إلى البحث عن تلك البدائل إن تيسر له ذلك، مُرجعاً ذلك إلى أنَّ تلك النظرة السلبية متى ما وجدت فإنَّ ذلك قد يكون له أثر سلبي على الجو العام داخل المدرسة، وعلى مستقبل المعلم التعليمي، وعلى نظرته لطلابه، بل وعلى التعليم بشكل عام.
قواعد التعليم
وأفاد «ماجد الراضي» -مدير ثانوية- أنَّ بعض المعلمين ينشأ لديهم مع مرور الوقت شعور بالنفور من مهنة التدريس، والملل من الفصل والطلاب، وانخفاض الدافعية للمشاركة في أنشطة المدرسة، وعدم الاهتمام بالإعداد للدرس، وأداؤه بأقل قدر من الجهد والوقت، بالإضافة إلى كثرة التذمر من أوضاع المدرسة وأوضاع التعليم بشكل عام، مُشيراً إلى أنَّ ذلك يعود إلى عدَّة أمور من أهمها عدم إلمامهم بالقواعد الصحيحة للتعليم، وعدم إلمامهم بالخصائص النفسية للطلاب، إلى جانب عدم تحليهم بالصبر، لافتاً إلى أنَّ من أهم صفات المعلم الصبر، حيث إنَّ التعلم يحتاج إلى وقت حتى يتحقق وتظهر آثاره على المتعلم.
غياب التحفيز
وأكّد «د.عامر الشهراني» -وكيل جامعة الملك خالد للتطوير والجودة- على أنَّ الكثير من المعلمين أصبحوا يعانون من الملل؛ مما أدى إلى تفكير معظمهم في ترك مهنة التدريس، أو البحث عن الأعمال الإدارية في المدارس، وذلك نتيجة لعدد من العوامل من أهمها؛ أنَّ نوعية الطلاب اليوم يختلفون عن الطلاب في الماضي من حيث العدد، ومن حيث التطلعات والاتجاهات والجدية، مُشيراً إلى أنَّ طلاب اليوم وسلوكياتهم، وتوقعاتهم العالية من المعلمين قد تكون من أهم اسباب ملل المعلم من العملية التعليمية، لأنَّ المعلم لا يستطيع أن يحقق ما يتطلع إليه هؤلاء الطلاب، حيث أنَّ الكثير من الطلاب لا يُبدي الجدية في عملية التعليم والتعلم، ولا يبالي بما يحدث في الصف من عدم تقدير المعلم واحترامه من قبل المتعلمين، بالإضافة إلى عدم تطبيق الأنظمة التي تحمي المعلم، وتضمن له واجباته وحقوقه، إلى جانب غياب التحفيز المادي والمعنوي.
دور المعلم
ونوّه «د.الشهراني» بأنَّ التقدم التقني الذي نعيشه هذه الأيام جعل الطالب يتفوق على المعلم في كثير من الجوانب، خاصةً في ظل قدرة الطالب على الحصول على المعلومة من مصادر مختلفة، وبالتالي فإنَّ المعلم الذي لم يتضمن إعداده برنامجاً قوياً في هذا المجال قد يشعر بالتقصير، وعدم القدرة على مجاراة المتعلم، لافتاً إلى ضرورة أن يكون دور المعلم مختلفاً عما هو متعارف عليه، حيث لم يعد مصدر المعرفة الوحيد، بل يجب أن يكون هو الموجه، والمرشد، والقائد، والمستشار في هذا الجانب، وذلك حتى لايكون مضطراً لأن يترك مهنة التدريس نتيجة عدم مواكبة مهاراته وقدراته لما يتطلبه أو يتوقعه المتعلم، مُشيراً إلى أنَّ مهنة التدريس من المهن الصعبة، والتي تتطلب جهداً جسدياً وذهنياً، وتؤدي إلى القلق، والتعب النفسي، ولذلك فإنَّ المعلم المخلص في مهنته يتعب ويُستهلك بسرعة بعد مضي وقت قصير من الزمن.
مغادرة المهنة
ولفت «د.الشهراني» إلى أنَّ البيئة المدرسية قد تكون من العوامل الطاردة للمعلم، فعدم توافر الإمكانات المادية، وغياب العلاقات الجيدة بين المعلمين أنفسهم، وبين المعلمين وطلابهم، وبين المعلمين والجهاز الإداري؛ من أهم الأسباب التي تجعل البيئة المدرسية طاردة للمعلم والمتعلم على حدٍ سواء، مُضيفاً أنّ عدم التركيز في تدريب المعلمين على المستجدات المهنية والتقنية والتخصصية قد يؤدي إلى إحساس المعلم بأنَّه غير مواكب للمناهج المطورة، ولطرائق التدريس الحديثة، والمستجدات التربوية، ومن ثم يبدأ البحث في مغادرة المهنة التي يشعر أنَّه لا يجيدها.
ساحة تجارب
واعتبر «د.فهد أبانمي» إلى أنَّ المدارس إمّا أنْ تكون بيئة جاذبة أو بيئة طاردة، لافتاً إلى أنَّه ومن خلال زياراته لكثير من المدارس -بحكم إشرافه على طلاب التربية الميدانية- وجد أنَّ البيئة المدرسية لدينا بيئة طاردة بنسبة (99%)، فالمدارس لا تجذب الطالب ولا المعلم، والإمكانات التقنية ضعيفة جداً، وكذلك عدم وجود غرف مخصصة للمعلمين في المدارس تليق بمكانتهم العلمية والأدبية، حيث يتم الزج بالمعلمين في غرف ضيقة كئيبة لا تتوافر فيها أدنى مقومات الراحة، بالإضافة إلى عدم وجود مشروع تطويري كبير للتعليم، مُشيراً إلى أنَّ كل وزير جديد يتم تعيينه لا يلبث أنْ يطلق تصريحات حول خططه الطموحة، وأنَّ الأمر يحتاج إلى فترة قصيرة لإحداث تلك النقلة، ومع الأيام يفتر الحماس فينشغل بأمور إدارية بحتة لا علاقة لها بتطوير التعليم، مُتسائلاً عن مدى إفادة المعلم من الميزانية الكبيرة لوزارة التربية والتعليم، مبيّناً أنَّ الطالب والمعلم والعملية التعليمية برمتها أصبحت ساحة تجارب لكل فكرة تطرح من مسؤولي الوزارة.
ضغوط كبيرة
وقال «د.أبانمي» -أستاذ المناهج وطرق التدريس المشارك بكلية التربية بجامعة الملك سعود-: إنّ المعلم -للأسف- بات الحلقة الأضعف لدى وزارة التربية والتعليم ولدى الكثير من أفراد المجتمع، حيث حملته الوزارة أكثر مما يحتمل، وجعلته سببا رئيساً في التردي، والضعف، والقصور، الذي تعاني منه العملية التعليمية، على الرغم من أنَّ المعلم يُعدُّ جزءاً من المنظومة التعليمية وليس أوحدها، فهناك المعلم والطالب والمنهج بشكله الواسع، فقد تكالبت الأقلام على المعلم وجعلته السبب الرئيس في الإخفاق المتزايد في مخرجات التعليم، بل إنَّ البعض يعتبره السبب الرئيس في عدم نجاح الرؤى التربوية للوزارة، وهذا الاتهام في غير محله، ولم يُبْنَ على دراسات علمية موثوقة، فالمعلم لا زالت تمارس عليه ضغوط كبيرة ومتزايدة من قبل وزارة التربية والتعليم.
تصيُّد أخطاء المعلم
وأضاف «د.أبانمي» أنَّه وبناءً على استقراء الدراسات العلمية، ومقابلة بعض المعلمين، ورصد الملاحظات العلمية التتبعية، فإنَّه يمكن تحديد أسباب ضعف علاقة المعلم مع العملية التعليمية في عدة أمور من أهمها؛ زيادة العبء التدريسي على المعلم الذي قد يصل إلى (24) حصة في الأسبوع، متسائلاً عن مدى قدرة المعلم على الإبداع في ظل تكليفه بخمس حصص يومياً، وكذلك عدم تشجيع المعلم على إكمال دراساته العليا، وعدم تقدير المجتمع ووسائل الاعلام المختلفة لرسالة المعلم، خاصةً ما يُرى من إسقاطات في بعض المسلسلات الكوميدية المحلية، إلى جانب التقليل من هيبة المعلم من قبل الوزارة، ومن صور ذلك تصيُّد أخطاء المعلم وتضخيمها، وتثبيط أفكار المعلمين الإبداعية، وعدم التشجيع المادي والمعنوي لهم، كما أنَّ الوزارة تمارس اللوم المستمر للمعلم في كثير من التصريحات المنسوبة لمسؤولي التعليم، بل إنَّ بعض القرارات التنظيمية تصدر من الوزارة من غير دراسة متأنيَّة، وآخر تلك القرارات تقليص إجازة المعلمين الصيفية والتي تراجعت عنها الوزارة بعد التصعيد المبرر والجاد من المعلمين، وكذلك كثرة الأعباء الإدارية على المعلم والتي لا تتماشى مع الرسالة المأمولة منه، مُشيراً إلى أنّ المسؤول عن هذه الأعمال الإدارية في البلاد المتقدمة هو جهاز السكرتارية.
تخفيف العبء
وأشار «د.أبانمي» إلى أنَّ المعلم جزء من المنظومة التعليمية، ومُكوِّن من مكوناتها، بل إنَّه المُكوِّن الرئيس، ولا يُمكن أنْ يتطور في عمله إلاَّ بعد أنْ يتم استحداث تطوير شامل للتعليم، فالاهتمام بجانب دون آخر لن يكون له شأن ولن يصلح به تعليم، مُضيفاً أنَّه كي تعود للعملية التعليمية والتربوية قوتها، ولبث روح الحماس والهمة في المعلم والدفع به نحو البحث والتطور والنجاح؛ فإنَّه لابُدَّ من تفعيل هيئة تقييم التعليم العام، ووضع المواصفات والضوابط الدقيقة للعاملين بها، شريطة أنْ تكون قراراتها مستقلة ومُلزمة لوزارة التربية والتعليم، والعمل على إيجاد مشروع تطويري كبير للتعليم، تشارك فيه جميع القطاعات المسؤولة عن التعليم، واستقطاب قيادات تربوية لها نجاحها في تطوير التعليم، والبدء بإنشاء مبان تربوية «مدارس» تتوافر فيها المواصفات العالمية للمدرسة، وأنْ تُخصِّص وزارة المالية ميزانية مستقلة لإنشاء المباني المدرسية وملحقاتها، والتعاقد مع مؤسسات كبرى لصيانة المدارس على مدار الأسبوع بمهنية كما هو معمول به في مدارس «أرامكو»، وتخفيف العبء التدريسي عن المعلمين، بحيث لا تزيد الحصص الأسبوعية لمعلم الإبتدائي على (20) حصة، والمتوسط عن (18) حصة، والثانوي عن (16) حصة، إلى جانب إنشاء مستشفيات وأندية خاصة بالمعلمين، إضافةً إلى تكريم المعلم التكريم اللائق به، ووضع الحوافز للمبدعين منهم.
http://www.alriyadh.com/2013/02/04/article807274.html