الشبهة وأثرها في إسقاط الحد
{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سلك طريقه إلى يوم الدين ، أما بعد :
لقد جاءت الشريعة الإسلامية مقننةً أحكاماً وتشريعاتٍ للناس ، لضبط سير المجتمع على الطريق القويم ، وللحفاظ على الكليات الخمس " النفس والمال والعرض والدين والعقل " التي هي مقاصد الشرع الحنيف ، وقد حارب الإسلامُ الجريمةَ .. ووضع لها عقوباتٍ رادعةً ، حرصًا منه على أمنِ الأفرادِ ، وحمايتِهم حتى من أنفسِهم ، وقد صنف العلماء العقوبات الشرعية إلى قصاصٍ وحدودٍ وأحكامٍ تعزيرية ، وجُعِلَتْ الحدودُ حقاً لله تعالى لا تسقط بالإبراءِ أو العفوِ ، هذا وأحكامُ الحدودِ زاجرةٌ لا جابرةٌ ، لتهيئ حاجزاً نفسياً لدى المكلف يمنعه القرب من هذه الحدودِ وتعديها ، فهي من الزجر والردع بمكانٍ يمنع من تُسَوِل له نفسُه تجاوزَ هذه الحدود وتعديها ، إلا أن مجالَ تطبق أحكامها ضيقٌ جداً ، وما ذلك إلا رأفةً ورحمةً من اللهِ بالعباد ، فهي بابٌ من باطنِهِ الرحمةُ ومن ظاهرِهِ العذابُ ، وهذا المبدأُ الذي يُعَدُ تجسيداً واضحًا لكل ما حاط به هذا التشريع الإسلامي الإنسان من رعايةٍ ، وحمايةٍ وأمنٍ وأمانٍ ، لم يضارعه في ذلك أو يدانيه أيُ تقنينٍ وضعيٍ أياً كان واضعه ، أو مقننه ، فقد حبذت الشريعة الإسلامية درءَ الحدودِ لقيامِ شبهةٍ ينثلمُ بها ركنٌ من أركانِ الجريمة ، أو دليلُ إثباتِها ، رحمة ً بالأمةِ وعدلاً لأفرادها ، ففي حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن رسول الله * قال :" أدرؤوا الحدود بالشبهات " ، وطلب من الجميع بأن يستروا أنفسهم بستر الله ، ففي حديث عبد الله بن مسعود Z أن رسول الله * قال : (( يا أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله ، فمن أصاب من هذه القاذورة شيئاً فليستترْ بسترِ اللهِ ، فإنه من يبدلنا صفحتهُ نقم عليه كتابَ الله )) ، وفي حديث أبي أمامة الباهلي Z أنه قال : بينما رسولُ اللهِ * في المسجدِ ، ونحن قعودٌ معه ، إذ جاء رجلٌ فقال : يا رسولَ اللهِ ! إني أصبتُ حدًّا . فأَقِمْه عليَّ . فسكتَ عنه رسولُ اللهِ *، ثم أعاد فقال : يا رسولَ اللهِ ! إني أصبتُ حدًّا . فأَقِمْه عليَّ . فسكتَ عنهُ . وأُقِيمَتِ الصلاةُ . فلما انصرفَ نبيُّ اللهِ * قال أبو أُمامةَ : فاتبع الرجلُ رسولَ اللهِ * حين انصرف . واتبعتُ رسولَ اللهِ * أنظرُ ما يردُّ على الرجلِ . فلحق الرجلُ رسولَ اللهِ * فقال : يا رسولَ اللهِ ! إني أصبتُ حدًّا ، فأَقِمْه عليَّ . قال أبو أمامةَ : فقال له رسولُ اللهِ * ( أرأيتَ حين خرجتَ من بيتك ، أليس قد توضأتَ فأحسنتَ الوضوءَ ؟ " قال : بلى . يا رسولَ اللهِ ، قال " ثم شهدتَ الصلاةَ معنا ؟ " فقال نعم . يا رسولَ اللهِ ، قال فقال له رسولُ اللهِ *" فإن اللهَ قد غفر لك حدَّك . - أو قال - ذنبَكَ " . .
ولهذا فإن أبا بكر الصديق Z ، لما جاءه ماعزٌ قبل أن يذهب إلى رسول الله * ، وقص عليه ما كان من أمره ، فقال له أبو بكر Z: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ قال: لا. قال أبو بكر Z: تب إلى الله واستتر بستر الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده.
ولم تقر نفسُ ماعزٍ، فذهب إلى عمر بن الخطاب Z ، وقال له ما قاله لأبي بكر Z ، فقال له عمر Z: اذهب فاستتر بستر الله تعالى ، تب إلى الله ، فإن الناس يعبرون ولا يغيرون ، والله تعالى يغير ، ولا يتغير فتب إلى الله ، ولا تخبر أحدًا.
ولم تقر نفس ماعز حتى أتى رسول الله *، وقال له ما قاله لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأعرض عنه رسول الله *، وأخذ ماعزٌ يكرر مقالته ، ورسول الله *يكرر إعراضه عنه ، حتى أكثر ماعزٌ على رسولِ اللهِ *، والرسول يحاول تلقينه الستر على نفسه ، وليحمله على الرجوع عن إقراره تلميحًا وتصريحًا، فيقول له *: (( لعلك قبلت ، لعلك لامست ، لعلك فاخذت ، لعلك ، لعلك ))، فلما لم يجدْ منه الرسول * إلا الإصرارَ ، أرسل إلى أهله يسألهم عنه ، (( أيشتكي؟ أبه جنة))؟ كل ذلك في محاولة من الرسول * للستر على عبد من عباد الله ودرء الحد عنه ، ثم ليضع الرسول *مبدأ يعلنه لكلِ من يتبع الإسلام، ( ادرؤوا عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرجٌ ، فخلوا سبيله ، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة ) .
وهذا بحث مختصر حول الشبهة وأثرها في إسقاط الحدود في الشريعة الإسلامية ، جمعت فيه أقوال مذاهب أهل السنة كما تيسر ليّ ، مقارناً بينها ومحاولاً ترجيح ما ترجح لديَّ ، وقد قسمت بحثي هذا كما يلي :
المطلب الأول : تعريف الحد والشبهة لغةً واصطلاحاً .
المطلب الثاني : أدلة مشروعيتها .
المطلب الثالث : أقسام الشبهة وأنواعها .
المطلب الرابع : أقوال العلماء في أثر الشبهة وشروطها .
المطلب الخامس : مناقشة الشبهة وأثرها في إسقاط حد الزنا .
المطلب السادس : مناقشة الشبهة وأثرها في إسقاط حد القذف .
المطلب السابع : مناقشة الشبهة وأثرها في إسقاط حد السرقة .
المطلب الثامن : مناقشة الشبهة وأثرها في إسقاط حد الحرابة .
المطلب التاسع : مناقشة الشبهة وأثرها في إسقاط حد الردة .
متناولاً في ذلك أقوال العلماء الأجلاء في كل مسألة ومناقشتها.
المطلب الأول
تعريف الحد والشبهة
قبل الشروع في تعريف الشبهة وبيان أثرها في درء الحدود لا بد لنا من تعريف الحد ، وعليه سنبدأ بتعريف الحد لغةً واصطلاحاً ثم يلي ذلك تعريف الشبهة .
تعريف الحد :
أولاً في اللغة :
عرفه صاحب لسان العرب فقال : الحَدُّ: الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أَحدهما بالآخر أَو لئلا يتعدى أَحدهما على الآخر، وجمعه حُدود ، وحَدُّ كل شيءٍ : منتهاه لأَنه يردّه ويمنعه عن التمادي ، وحَدُّ السارق وغيره : ما يمنعه عن المعاودة ويمنع أَيضاً غيره عن إِتيان الجنايات ، وجمعه حُدُود .
والحَدُّ المَنْعُ ، وحدَّ الرجلَ عن الأَمر يَحُدُّه حَدّاً : منعه وحبسه ، تقول : حَدَدْتُ فلاناً عن الشر أَي منعته ، ومنه قول النابغة الذبياني :
إِلاَّ سُلَيْمانَ إِذْ قال الإِلهُ لَهُ *** قُمْ في البرية فاحْدُدْها عن الفَنَدِ
وفي القاموس المحيط : الحَدُّ : الحاجِزُ بينَ شَيْئَيْنِ، ومُنْتَهى الشيءِ، ومن كُلِّ شيءٍ : حِدَّتُهُ .
وفي مختار الصحاح : الحدّ الحاجز بين الشيئين ، وحَدُّ الشيء : منتهاه ، وحَدَدْتُ الرَجُل : أقمتُ عليه الحَدَّ لأنّه يَمْنَعُهُ من المُعاودة.
والحَدُّ المَنْعُ ، ومنه قيل للبوّاب : حَدَّاد ، ويقال للسَّجان حدّاد ، لأنه يمنع منا لخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود، قال الشاعر:
يقولُ لي الحَـدَّادُ وهـو يقـودنـي *** إلى السِجْنِ لا تَجْزَعْ فما بكَ من باسِ
وفي مقاييس اللغة : الحاء والدال أصلان: الأوّل المنع، والثاني طَرَف الشيء.فالحدّ الحاجز بَيْنَ الشَّيئين. وفلان محدودٌ، إذا كان ممنوعاً. و"إنّه لَمُحارَفٌ محدود"، كأنه قد مُنِع الرِّزْقَ. ويقال للبوَّاب حَدّاد، لمنْعِه النَّاسَ من الدخول. قال الأعشى :
فَقُمنْا ولَمَّا يَصِحْ دِيكُنا *** إلى جَوْنَةٍ عند حَدّادِها
ثانيا في اصطلاح الفقهاء :
عرفه الحنفية : عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله تعالى ، وعرفها بعضهم بأنها : العقوبة المقدرة شرعاً .
وعرفه المالكية : ما وضع لمنع الجاني من عوده لمثل فعله وزجر غيره .
وعرفه الشافعية بقولهم : عقوبةٌ مقدرةٌ وَجَبتْ حقاً لله تعالى كما في الزنا ، أو لآدميٍ كما في القذف .
وعرفه الحنابلة بقولهم : عقوبةٌ مقدرةٌ شرعاً في معصيةٍ لمنع الوقوع في مثلها .
تعريف الشُبهَة :
أولاً في اللغة :
جاء تعريف الشبه في اللغة على معنيين اثنين المثل والالتباس والثاني هو ما يهمنا في بحثنا هذا.
فقد جاء في لسان العرب : الشبهة الالتباس وأُمورٌ مُشْتَبِهةٌ ومُشَبِّهَةٌ وجمعُ الشُّبْهةِ شُبَهٌ ، وهو اسم من الاشْتِباهِ، قال: واعْلَمْ بأَنَّك في زَمانِ مُشَبِّهاتٍ هُنَّ هُنَّهْ وبينهم أَشْباهٌ أَي أَشياءُ يتَشابهون فيها، وشَبَّهَ عليه : خَلَّطَ عليه الأَمْرَ حتى اشْتَبه بغيره .
وجاء في مختار الصحاح : الشُبْهَةُ الالتباسُ ، والمُشْتَبِهات من الأمور: المشْكِلاتُ .
وجاء في القاموس المحيط : والشُّبْهَةُ، بالضم: الالْتِباس ، والمِثْلُ وشُبِّهَ عليه الأَمْرُ تَشْبيهاً: لُبِّسَ عليه .
وفي مقاييس اللغة : يقال شِبْه وشَبَه وشَبيه ،والمُشَبِّهَات من الأمور: المشكلات ، واشتبه الأمرانِ ، إذا أَشْكَلاَ .
ثانيا في الاصطلاح :
عرفها الحنفية بأنها :
• هي ما يشبه الثابت وليس بثابت . ولا يقصد بالثبوت ثبوت الفعل فقط وإنما يقصد به معناه العام فيشمل ثبوت الفعل وثبوت الحكم .
• بينما عرفها الدكتور أحمد الكبيسي من فقهاء الحنفية : بأنها ما لم يتيقن كونه حراماً أو حلالاً ، ووافقه في ذلك الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات.
وعرفها الشافعية : ما جهل تحليله على الحقيقة وتحريمه على الحقيقة .
بينما عرفها الحنابلة بـ : وجود صورة المبيح مع انعدام حكمه أو حقيقته .
ومن التعريفات المعاصرة للشبهة :
تعريف الشيخ محمد أبو زهرة : هي الحال التي يكون عليها المرتكب أو بموضوع الارتكاب ويكون معها المرتكب معذوراً في ارتكابها أو يعد معذوراً عذراً يسقط الحد عنه ويستبدل به عقاباً دونه .
وعرفها الدكتور محمد الزحيلي : بأنها الشيء الغامض الذي يصاحب أمراً فيمتنع تمييزه عن غيره .
وبالنظر للتعريفات السابقة نجد أن التعريف الاصطلاحي تطابق مع تعريفها اللغوي وهو الالتباس بشكل عام يشمل الحدود والبيوع وغيرها من الأحكام ، باستثناء تعريف الشيخ محمد أبو زهرة الذي قصر تعريفه لها على الشق الجنائي فقط.
المطلب الثاني
أدلة مشروعية الأخذ بالشبهة لدرء الحد
اتفق علماء الشريعة على الأخذ بقاعدة " درء الحدود بالشبهات " وبنوا على ذلك أحكاماً مفصلةً لكل حدٍ من الحدود السبعة ، وقد بنوا قاعدتهم هذه وتقبلهم للعمل بها على أدلةٍ شرعيةٍ نذكر بعضٍ منها كما يلي :
أولاً القرآن الكريم :
قوله تعالى في سورة الحجرات { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ، قال ابنُ كثيرٍ في تفسير هذه الآية (يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئا فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه وقد نهى الله y عن إتباع سبيل المفسدين ) .
ثانياً السنة النبوية :
• عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ Z قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ * : } ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا { .
• وَعَنْ عَائِشَةَ g قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ * : } ادرؤوا الحدودَ عنِ المسلمينَ ما استطعتمْ ، فإنْ وجدتُم للمسلمِ مخرجًا فخلُّوا سبيلَه ، فإنَّ الإمامَ لأنْ يخطئَ في العفوِ خيرٌ منْ أنْ يخطئَ في العقوبةِ { .
• وعن ابن عباس Z أنه قال : قال رسول الله * : } ادْرَؤوا الحدودَ بالشبهاتِ ، وأَقِيلُوا الكرامَ عثراتِهم إلا في حدٍّ منْ حدودِ اللهِ تعالى { .
• وعن الإمام علي بن أبي طالبٍ Z أن رسول الله * قال : } ادْرَؤوا الحدودَ بالشبهاتِ {
• وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ Z: قَالَ }ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ، ادْفَعُوا الْقَتْلَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ { .
• في قصة ماعز بن مالك Z المعروفة قوله *: } هَلَّا رَدَدْتُمُوهُ إلَيَّ { وَفِي رِوَايَةٍ } تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ { ففي رواية الإمام البخاري ( أَنَّهَا لَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ ) ، وذلك مضنة رجوعه عن إقراره بالزنا . وكذلك الحال في قصة الغامدية الأزدية ، وقد وردت هاتان القصتان في كثيرٍ من كتب الحديث والفقه وتناولهما العلماء بالعناية والشرح لما يترتب عليهما من أحكامٍ في كثيرٍ من المسائل - ليس مكان بيانها هنا -.
• ويقول الرسول *لمن أقر بالسرقة: (( ما أخالك فعلت)) .
ثالثاً ما روي عن الصحابة f:
• روي عن عمر بن الخطاب Z أنه قال: "لأن أعطل الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات" ، كما روي عنه أنه قال: " إذا حضرتمونا، فاسألوا في العفو جهدكم، فإني إن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أخطئ في العقوبة "
• روي عن معاذ وعبد الله بن مسعود، وعقبة بن عامر f أنهم قالوا : "إذا اشتبه عليك الحد، فادرأ ما استطعت" .
• روي عن عبد الله بن مسعود Zأنه قال: "ادرءوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم " .
• كما روي أن عليًا Z قال في امرأة أقرت على نفسها: أنه استكرهها رجل على نفسه، قال: هي السائبة ، لا تملك نفسها فلو شاء لقتلها، فليس عليها جلد ولا نفي ولا رجم.
• روي عن علي Z أنه أتى بامرأة مع رجل فجر بها، فقالت : استكرهني والله يا أمير المؤمنين ، فدرأ عنها الحد .
• روي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر Z ، وقيل : إنها زنت ، فخفقها بالدرة خفقاتٍ ، وقال: أيُ لكاعٍ زنيت ، فقالت : من غواشٍ بدرهمين ، تخبر بصاحبها الذي زنى به ، ومهرها الذي أعطاها، فقال عمر Z: ما ترون؟ وعنده علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف . فقال Z: أرى أن ترجمها، وقال عبد الرحمن : أرى مثل ما رأى أخوك . فقال : ما تقول؟ قال: أراها تستهل بالذي صنعت لا ترى بأساً، وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل ، فقال : صدقت .
• ويحكى عن أبي الدرداء Zأنه أتي بجاريةٍ سوداءَ سرقتْ ، فقال لها: " أسرقت؟ قولي: لا، فقالت: لا، فخلى سبيله .
• كما يروى عن الأحنف أنه كان جالسًا عند معاوية، فأتي بسارق، فقال معاوية: أسرقت؟ فقال له بعض الشرطة: أصدق الأمير. فقال الأحنف: الصدقُ في كل المواطن معجزة، فعرض له بترك الإقرار .
هذا وقد استقر فقهاء مذاهب أهل السنة الأربعة على الأخذ بالشبهة ودرء الحدود بها باستثناء الظاهرية ، قال الإمام الشوكاني - لبيان حجية العمل بالشبهة في درء الحدود - بعد سرده لأدلة مشروعية العمل بها والاحتجاج بها - : ( وَمَا فِي الْبَابِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْمَقَالُ الْمَعْرُوفُ فَقَدْ شَدَّ مِنْ عَضُدِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَيَصْلُحُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ لَا مُطْلَقِ الشُّبْهَةِ ) .
المطلب الثالث
أنواع الشبهة
كما بيَّنا سابقاً من أن أئمة المذاهب الأربعة وتلاميذهم من بعدهم قد اتفقوا على الأخذ بقاعدة الحدود تدرأ بالشبهات ولم يخالف أحدٌ في ذلك إلا ابن حزم الأندلسي ومن سار على طريقته من أهل الظاهر بعدم العمل بالشبهة في إسقاط الحدود ، وقد اهتم الفقهاء بالحديث عن الشبهات المسقطةِ للحدودِ ، وبيانِ أنواعِها واختلافِها ، وذكروا أن منها ما يتعلق بالفاعل ، ومنها ما يتعلق بالفعل أو بالمحل ، ومنها ما يتعلق بالإثبات ، إلى غير ذلك مما ذكروه عنها، مع تفاوتٍ في بيانِ ذلك من مذهبٍ لآخر، إلا أنهم لم يعنوا بتصنيف ما ذكروه من الشبهات ، بالقدر الذي عنوا به ببيان أفراد هذه الشبهات ، وإن كان فقهاء الحنفية قد اهتموا بتصنيف الشبهات تصنيفًا محددًا، وتبعهم في ذلك أيضًا فقهاء الشافعية ، إلا أن فقهاء المالكية والحنابلة قد اكتفوا ببيان أنواع الشبهات في مواضعَ متفرقةٍ عند حديثهم عن الحدود عامة ، وعند بيان كل جناية من الجنايات الحدية ، وعند بيانهم طرق الإثبات ، وفيما يلي بيان أنواع الشبهة وصورها بدءً بتقسيم المذهب الحنفي ثم تقسيمات المذهب الشافعي للشبهة ، كما يلي :
أولاً تقسيم الحنفية :-
قسم الحنفيون الشبهة إلى قسمين هما :
1. الشبهة في الفعل " شبهة اشتباه أو شبهة مشابهة " : ومفادها أن يشتبه الفعل على الفاعل بين الحل والحرمة مع عدم وجود دليل سمعي للتحليل ، وغلبة الظن باتخاذ غير الدليل دليلاً ، وقد حصر الحنفيون شبهة الفعل بثمانِ صورٍ منها كأن يطأ الرجل من طلقها ثلاثاً أثناء العدة جهلاً منه بالتحريم واعتقاده الحل في ذلك ، ويخالف أئمة بقية المذاهب الأحناف في هذه الصورة فيرون لزوم الحد.
2. الشبهة في المحل " الشبهة الحكمية أو شبهة الملك " : أشترط الأحناف لقيام هذه الشبهة والعمل بها أن تكون ناشئة عن حكم شرعي بمعنى وجود دليل على التحريم يعارضه دليل آخر على التحليل فيقيد إطلاقه كحد السرقة ثابت بقوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، ويعاقب على السرقة بقطع اليد ولكن ورد دليلٌ آخر قيدها وهو قوله * (( أنت ومالك لأبيك )) فهذا الدليل يورث شبهة تسقط حد السرقة ولا يهم اعتقاد الفاعل وقتها حول فعله سرقةً كان أو آخذاً من ماله تمشياً مع الدليل ، فالحرمة هنا مشكوكً فيها لقيام دليل الحل .
ويرى أبو حنيفة رحمه الله أن الشبهة قد تثبت بالعقد ولو كان العقد متفقاً على تحريمه وكان الفاعل عالماً بالاتفاق على تحريمه كمن ينكح إحدى محارمه بعقدٍ باطلٍ ، فالعقدُ لديه شبهةٌ في ذاته يدرأ الحد ، ويخالفه في ذلك تلاميذه فيذهبون إلى ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بعدم القول بشبهة العقد.
ثانياً تقسيم الشافعية :-
كما أوضحنا سابقاً فقد اعتنى الشافعيون بتقسيم الشبهة إلا أنهم خالفوا الحنفية في التقسيم حيث قسمها الشافعية إلى ثلاثة أقسام نوجز بيانها كما يلي :
1. شبهة في المحل : وهي شبهة قامت في محل الفعل المحرم وليس في الفعل نفسه من حيث الحل والحرمة ومثالها كمن يطأ زوجته في دبرها ، فالوطء في الدبر محرم معاقب عليه ، لكن المحل هنا مملوك للفاعل - الزوج – ومن حقه مباشرة زوجته فيما أباحه الله له ، و بإتيانه لها في الدبر يكون قد اقترف أمراً معاقباً عليه ولكن ملك المحل للزوج وحقه عليه أورث شبهة أسقطت العقاب عنه ، أو كمن يسرق مالاً مشتركاً به مع غيره ، فالسرقة لا تكون إلا خفيةً من حرزٍ لمالٍ مملوكٍ للغير بقصد التملك ، وفي مثالنا هذا المال غير محرزٍ وأخذه لم يكن خفيةً بالإضافة إلى تملك الفاعل لجزءٍ من المال ، فهنا أساس الشبهة هنا محل الفعل وتسلط الفاعل شرعاً عليه وليس الاعتقاد والظن في الحل والتحريم .
2. شبهة في الفاعل : وهو أن يأتي المكلف أمراً معاقباً عليه شرعاً ولكنه يعتقد حله ومثاله كمن يطأ امرأة أخرى ظناً منه أنها زوجته ، فأساس الشبهة هنا ظن الفاعل واعتقاده بأنه أتي أمراً مباحاً وهذا الظن أورث شبهة أسقطت للحد ، أما إذا ارتكب الفعل عالماً بالتحريم فلا شبهة هنا ويقام عليه الحد .
3. شبهة في الجهة : ومقصوده الاشتباه في حل الفعل وحرمته لاختلاف العلماء في الحكم فيه ، فالاختلاف في المسائل الفقهية بين الفقهاء مبني في مجمله على مدى قوة الدليل واعتمادهم له ، وإن اختلافهم في إثبات ركن من أركان الموضوعات الفقهية - خصوصاً أركان الفعل المجرم - يتنازعه دليلان ، أو دليلٌ احتمل معنيين ، ويمثل هذا النزاع شبهةً في الدليل الذي استدل به كل فريق من الفقهاء، وعلى أساس هذا الاختلاف وضع العلماء لهذا قاعدة فقهية لحكم ما يترتب عليه من نتائج : } إن كل فعلٍ يَختلِفُ فيه الفقهاءُ حلاً وتحريماً يكونُ شبهةً تمنع إقامة الحد { وأساس الشبهة هنا هو اختلاف الفقهاء في حكم شرعي بين الحل والحرمة ، ومثاله نكاح المتعة فهو نكاحٌ محرمٌ منهيٌ عنه ولكن بعض الفقهاء أجازه كابن عباس رضي الله عنهما ، فمن تزوج بامرأةٍ زواج متعةٍ معتقداً جوازه سقط عنه الحد لوجود شبهة في الجهة واختلاف العلماء في الحكم أما إذا قام بذلك عالماً بالتحريم فلا شبهة هنا ويُقام عليه الحد ، ومثاله أيضاً نكاح الفتاة بلا ولي فقد ذهب الحنفية إلى جواز هذا النكاح مستدلين بقصة زواج أم المؤمنين أم سلمة g من رسول الله * ، مخالفين في ذلك بقية المذاهب التي منعت هذا النوع من النكاح وجعلته باطلاً ، ومن أمثلتها أيضاً الزواج بدون شهود فقد اتفق علماء المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي على ضرورة الإشهاد في عقد الزواج وأن العقد يعتبر باطلاً إن لم يُشهَّدْ عليه إلا أن علماء المذهب المالكي أجازوا إنشاء عقد القران بدون إشهاد ، وعليه فمن تزوج بامرأة دون إشهاد معتقداً الحلة فلا يحد لسقوط الحد بالشبهة في الجهة والعكس صحيح فإن كان عالماً بالبطلان فيحد حد الزنا.
وهناك تقسيم حديث للشبهة وأثرها في الدرء حيث تم تقسيمها إلى أربعه أقسام أصيلة كما يلي :
1. ما يتعلق بركن الجريمة : ويقسم إلى أربعه أقسام :
أ- شبهة الدليل .
ب- وشبهة الملك .
ج- وشبهة الحق .
د- وشبهه الصورة.
2. يتعلق بالجهل النافي للقصد الجنائي في الارتكاب.
3. يتعلق بالإثبات.
4. يتعلق بتطبيق النصوص على الجزئيات والخفاء في تطبيق بعضها .
والاختلاف بين هذا التقسيم والتقسيمات السابقة هو اختلاف لفظي ، وصوره هي ما تقدم ضربه كأمثلة على تقسيمات الحنفية والشافعية كشبهٍ تدرأ الحدود عن مرتكبيها .
المطلب الرابع
أقوال العلماء في أثر الشبهة وشروطها
إن قاعدة " درء الحدود بالشبهات " الأصل فيها قول الرسول *: }ادرءوا الحدود بالشبهات{. وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول ، وأتفق فقهاء الأمصار على العمل بهذه القاعدة ، وإن اختلفوا فيما يُعتَبَرُ شبهةً وأساس خلافهم هذا هو الاختلاف في التقدير فيرى البعض أن حالةً معينةً تعتبرُ شبهةً ويرى البعضُ أنها ليست بشبهة ، هذا وقد عمل الصحابة بقاعدة درء الحدود بالشبهات بعد وفاة الرسول ، فروي عن عمر بن الخطاب Z أنه قال: " لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات ". وروي عن معاذ وعبد الله بن مسعود وعقبه بن عامر fأنهم قالوا: " إذا اشتبه عليك الحد فادرأه "، وليس في الفقهاء من ينكر قاعدة درء الحدود بالشبهات إلا الظاهريون ، فهم يرون أن الحد لا يجوز درؤه بالشبهة ، فلم يصح لديهم ما روي عن الرسول *والصحابة من أثار وذلك لقوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والآثار المروية عن الرسول *والصحابة f كثيرة تؤازر وتقوي بعضها بعضاً وعليها بُنيّتْ هذه القاعدة ، فمن ذلك قصة ماعزٍ بن مالك ، وقصة الغامدية الأزدية ، ومن ذلك أيضاً حديث السائب بن يزيدZ }أنه أتي برجل إلى رسول الله * فقالوا : يا رسول الله إن هذا قد سرق جل بعير أو جل دابة . فقال رسول الله *: ما أخاله فعل . ثم قالوا: يا رسول الله إن هذا سرق . فقال : ما أخاله فعل ، حتى شهد على نفسه شهادات . قال: اذهبوا به فاقطعوه ثم ائتوني به ، فذهبوا به فقطعوا يده ثم جاءوا به إلى رسول الله *فقال: ويحك تب إلى الله .فقال: تبت إلى الله ، فقال: اللهم تب عليه { ، وكذلك لما جاءت شراحة الهمدانية معترفة بالزنا لعلي Z فقال لها: لعله وقع عليك وأنت نائمة؟ لعله استكرهك؟ لعل مولاك زوجك منه وأنت تكتمينه؟ وما كان علي Z يقصد من هذه الأسئلة إلا ما قصده الرسول * من درء الحد بالشبهة وتلقين المقر ما يسقط عنه الحد، ومن أجل ذلك يرى بعض الفقهاء أنه يستحب للقاضي أن يعرض للمقر بالرجوع عن الإقرار إذا لم يكن ثمة دليل إلا الإقرار.
وهذا ما رجحه الإمام الشوكاني بقوله في نيل الأوطار وَمَا فِي الْبَابِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْمَقَالُ الْمَعْرُوفُ فَقَدْ شَدَّ مِنْ عَضُدِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَيَصْلُحُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ لَا مُطْلَقِ الشُّبْهَةِ ) وذلك بعد ذكره لأدلة مشروعية العمل بالشبهة ودرء الحدود بها ومناقشته لها- كما ذكرناه سابقاً-.
شروط الشبهة :
لم نجد فيما بين أيدينا من مراجع شروطاً اشترطتها الفقهاء في الشبهة لتؤتي أثرها في درء الحدود غير ما ذكره الإمام الشوكاني في كتابه " نيل الأوطار " بأن تكون الشبهة محتملة لا مطلق الشبهة ، وأن تكون قوية المدرك مسقطة للحد ، هذا والأصل في القاعدة أنها جعلت لدرء الحدود فقط وليس في جرائم التعزير ، ولكن ليس هناك ما يمنع من إعمالها في هذه الجرائم ، إن كانت مسقطة للعقوبة بالكلية ، بمعنى أن لا تستبدل بعقوبة أخرى ، إلا أنه يمكن استنباط بعض الشروط من تعريفات العلماء كما يلي :
1. أن تكون الشبهة محتملة غير مطلقة .
2. أن تكون قوية المدرك مسقطةً للحد .
3. أن تقع على الفعل أو الفاعل أو المحل أو البينة .
المطلب الخامس
أثر الشبهة في حد الزنا
تعريف الزنا لغة :
عرفه صاحب لسان العرب فقال : زَنَى يَزْنِي زِنًى وزِناءً، بكسرهما: فَجَرَ.وزانَى مُزاناةً وزِناءً، بمعناهُ،وزانى فلان ، نَسَبة إلى الزِنَا.
تعريف الزنا في الاصطلاح :
عرف الحنفيون الزنا بأنه: وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك .
وعرفه المالكيون بأنه: وطء مكلف فرج آدمي لا ملك له فيه باتفاق تعمدًا .
وعرفه الشافعيون بأنه : إيلاج الذكر بفرج محرم لعينه خالٍ من الشبهة مشتهًى طبعاً .
وعرفه الحنابلة بأنه: فعل الفاحشة في قبلٍ أو دبرٍ .
وعرفه الظاهريون بأنه: وطء من لا يحل النظر إلى مجردها مع العلم بالتحريم ، وتعريف آخر : هو وطء محرمة العين .
دليل التحريم :
أولاً من القرآن الكريم : قوله تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}32 الإسراء وقوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }2 النور وقوله تعالى { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}المؤمنون.
ثانياً من السنة النبوية : حديث عبادة بن الصامت Z قال : قال رسول الله * : (( خُذوا عني ، خُذوا عني ، قد جَعَل الله لهنّ سبيلا . البكْر بالبِكْر جَلْدُ مائة ونَفْيُ سَنَة والثّيّبُ بالثّيّبِ ، جَلْدُ مائة والرّجْم )) ، وكذا فعله * في قصة ماعزٍ بن مالكٍ والغامدية وغيرهما .
أثر الشبهة في درء حد الزنا : كما ذكرنا سابقاً بأن الظاهرية لا يعملون بالشبهة التي تدرأ الحد ، حيث لم تصح الأحاديث المروية في هذه الباب ، اتفق الفقهاء في تعريفاتهم المختلفة للزنا على ركني الجرم وهما الركن المادي والمعنوي ، وعليه فلا بد لأن تؤتي الشبهة أثرها أن تكون داخلةً في أحد الركنين ، وسنتناول هنا بنوعٍ من الشرح الموجز الصور التي تكون فيها الشبهة مدرءةً للحد ، وذلك كما يلي :
أولاً : وطء المحارم : كما بيّنا سابقاً فإن وطء المحارم زناً موجبٌ للحد ولا شبهةَ فيه باتفاق علماء الأمصار من مالكيةٍ وشافعيةٍ وحنابلةٍ لعدم قولهم بشبهة العقد ووافقهم في ذلك أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني تلميذا أبي حنيفةَ النعمان ، كما ذهب الظاهريةُ إلى هذا القول لعدم عملهم بقاعدة " درء الحدود بالشبهات " بينما ذهب أبو حنيفةَ إلى سقوط الحد في هذه الصورة عملاً بشبهة العقد ، ويستبدل الحد بعقوبةٍ تعزيريةٍ ، وقد تفرد بهذا القول ولم يوافقه أحد من بقية الفقهاء باختلاف مذاهبهم كما بينا ، وصورته كمن ينكح أمه أو أخته أو إحدى محارمه بعقد باطل ، والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بعدم سقوط الحد فلا شبهة ، فالوطء هنا وقع على فرج اتفق على تحريمه ولا عذر للفاعل هنا ويلزمه الحد.
ثانياً : الوطء في نكاح باطل : وهذه صورة أخرى من صور تطبيقات قاعدة " درء الحدود بالشبهات " ولها نفس سابقتها من الحكم ، فلا شبهة هنا ويلزم الحد باتفاق العلماء باستثناء أبي حنيفة فقط لعلمه بشبهة العقد ، وصورته كمن ينكح زوجةً خامسةً أو ينكح مطلقةً في حال عدتها .
ثالثاً : الوطء في نكاحٍ مختلفٌ عليه : وقد اتفق الفقهاء جميعهم - باستثناء الظاهرية - بدرء الحد في هذه الصورة ، ومثاله نكاح الشغار والنكاح من غير وليٍ أو من غير إشهاد .
رابعاً : الوطء بالإكراه : للوطء بالإكراه صورتان:
1. الصورة الأولى إكراه المرأة على الزنا : وفي هذه الصورة لا حد على المرأة لقوله تعالى { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ، وقوله تعالى { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، ولقوله *: ((أن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) ، وغيرها من الأدلة من عمله * ومن عمل الصحابة من بعده ، وقد اجمع العلماء على هذا الحكم فلا حد على المرأة المستكرهة .
2. الصورة الثانية إكراه الرجل على الزنا : للعلماء في حكم هذه الصورة قولان هما :
أ- لا شبهة هنا ويقام عليه الحد فلا يتصور الإكراه في الرجل للزنا بعكس المرأة التي وظيفتها التمكين أما الرجل الانتشار ولا يتصور الإكراه على ذلك فالانتشار دليل على الطواعية وليس الإكراه ، وهذا قول مرجوح لدى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية.
ب- ذهب الظاهرية وهو القول الراجح في بقية المذاهب إلى أن لا حد على الرجل إن أكره على الزنا ، لعموم الأدلة ، ولأن الرجل يتساوى مع المرأة في الإكراه والانتشار قد يكون طبعاً ودليلاً على الفحولة والخوف من يكون من الترك لا من الفعل وبالتالي فلا حد عليه ، إلا أن الظاهرية يرون سقوط الحد للإكراه ، أما بقية المذاهب فمنهم من جعل الإكراه سبباً لدرء الحد ومنهم من جعل شبهة الإكراه هي السبب في الدرء .
خامساً : الخطأ في الوطء : وفي تفصيل ذلك صورتها :
1. الصورة الأولى الخطأ في وطء مباح : ومثاله أن تُزَفُ امرأةٌ لرجلٍ على أنها زوجته وليست بزوجته فوطئها ، أو وجد امرأةً على فراشه فظنها زوجته فوطئنا ، فلا خلاف بين العلماء على أن لا حد عليه ، منهم من اسقط الحد للشبهة في المحل كالمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية ، ومنهم من أسقطه للخطأ في المحل وهذا قول الظاهرية لقوله تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } ، ولقوله *: ((أن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) ، إلا أن الحنفية قالوا بعدم الشبهة في حال وطء امرأة وجدها على فراشة لعدم قولهم بشبهة المحل .
2. الصورة الثانية الخطأ في وطء محرم : ومثاله أن ينادي أحدهم امرأةً أجنبيةً غيرَ مباحةٍ له فتجيبه أخرى ، ولا خلاف بين العلماء بعد سقوط الحد هنا وآلا شبهة تدرأه .
سادساً : الزواج اللاحق : يرى الجمهور بأن الزواج اللاحق للزنا لا يعتبر شبهةً يدرأ بها الحد ، فقد وقع الوطء زناً محضاً وليس للزواج أثر رجعي لما قبله ، وقد سئل ابن مسعودZ عن الرجل يزني بالمرأة ثم ينكحا قال : هما زانيان ما اجتمعا فقيل لابن مسعود أرأيت إن تابا وأصلحا فقال { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون } فلم يزل ابن مسعود يرددها حتى ظننا أنه لا يرى به بأساً ، إلا أن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة يعتبر الزواج اللاحق للوطء شبهة تدرأ الحد .
سابعاً : وطء من وجب عليها القصاص : من وجب له القصاص على امرأة فوطئها فقد وجب عليه حد الزنا ، فاستحقاق القصاص لا يبيح له فرجها أو الاستمتاع بها ، ولو رادها على ذلك مقابل عتق رقبتها والتنازل عن حق القصاص ، فلا شبهة تدرأ عنه الحد ، ولها شبهة الإكراه كما بيناه سابقاً .
ثامناً : المساحقة : وهي إتيان المرأة المرأة ، والمساحقةُ فعلٌ محرمٌ بالإجماع ، لقوله تعالى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، ولحديث أبي سعيد الخدريZ أن رسول الله * قال : (( لا ينظرُ الرجلُ إلى عورةِ الرجلِ ، ولا المرأةُ إلى عورةِ المرأةِ ، ولا يُفضِي الرجلُ إلى الرجلِ في ثوبٍ واحدٍ ، ولا تُفضِي المرأةُ إلى المرأةِ في الثوبِ الواحدِ)) وفي روايةٍ : ((مكانُ عورةٍ عريةُ الرجلِ وعريةُ المرأةِ )) .
والسحاق عقوبته تعزيرية فلا شبهة هنا لمناقشتها ولولا أن العلماء ذكروا هذه المسألة في هذا الباب لما تطرقنا لها في بحثنا هذا ، وكذلك مسألة الاستمناء .
تاسعاً : إنكار أحد الزانيين : فإذا أقر أحد الزانيين بالزنا وأنكر الزاني الآخر ولم يكن هناك دليلٌ على زناهما غير الإقرار فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن إنكار أحدهما يعتبر شبهةٌ تدرأ الحد عن الآخر ، فالزنا لا يكون إلا من طرفين فإن نحن صدقنا المنكر في إنكاره فيكون المقر كاذباً بإقراره وهذه شبهة تدرأ الحد عنه، إلا أن تلميذيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن ذهبا إلى ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية من أن إنكار المنكر لا يؤثر في إقرار المقر ولا شبهةَ هنا لتدرأ الحد ، ما لم يرجع عن إقراره فإن رجع فيكون رجوعه شبهةٌ تدرأ عنه حد الزنا ، أما الظاهرية فيرون أن الإنكار لا يؤثر في إقرار المقر ويلزمه الحد ولا يغني عنه الرجوع عن إقراره شيئاً ، فهم كما بينا سابقاً لا يعملون بقاعدة " درء الحدود بالشبهات".
عاشراً : إدعاء أحد الزانيين الزوجية : ومثاله أن يقر أحد الزانيين بالزنا وادعى الطرف الآخر الزوجية بينهما ، فقد ذهب أبو حنيفة وأحمد بن حنبل ألا حد عليهما لشبهة دعوى النكاح التي تحتمل الصدق ، بينما ذهب المالكية والشافعية بأن حد الزنا لا يسقط عن المقر ما لم يثبت قيام الزوجية ، ووافقهم في ذلك الزيدية ، أما الظاهرية فقد فصل ابن حزم في ذلك فإن كان الزانيين غريبين فيصدقا في قولهما ولا يحتاجا إلى إثبات الزوجية ، أما إذا كان أحدهما معروفٌ ولا يعلم برابط الزوجية بينهما فيلزمهما إثبات الزوجية .
حادي عشر : بقاء غشاء البكارة : إذا شهد أربعة شهودٍ على امرأة بالزنا ، وشهدن نساءٌ ثقات بأن غشاء بكارتها مرتوقٌ لم يُفتقْ فقد ذهب أبو حنيفة والشافعيُ وأحمدُ بأن لا حدَ عليها على تهمة الزنا مظنة صدق النساء وتوهم الشهود ، ولا حدَ على الشهود لتهمة القذف كذلك لشبهة صدقهم أو توهمهم .
وذهب الإمامُ مالكٍ إلى لزوم الحد عليها ولو شهدن نساءٌ ثقاتٌ على عذريتها فالإثبات عنده أولى من النفي والترك ولا شبهة هنا لتسقط عنها الحد ، ووافقه في ذلك زفر من تلاميذ أبي حنيفة ، وهو رأي الظاهرية .
بينما يرى ابن حزمٍ الأندلسي بضرورة التأكد من شهادة النساء فإن قلن أنها عذراء وأن عذريتها يبطلها إيلاج الحشفة فلا حد عليها ، أما إن قلن أنها عذراء وأن عذريتها لا يبطلها الإيلاج فيلزمها الحد ولا يسقط عنها .
المطلب السادس
أثر الشبهة في حد القذف
تعريف القذف لغة :
جاء في لسان العرب : قذَفَ بالشيء يَقْذِف قَذْفاً فانْقَذَف : رمى قال تعالى { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} .
وفي العباب الزاخر : القَذْفُ بالحِجَارَةِ: الرَّمْيُ بها. يُقال: هم بين حاذِفٍ وقاذِفٍ: فالحاذِفُ بالعصا والقاذِفُ بالحجارة.
وقوله تعالى:{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} .
وفي القاموس المحيط : قَذَفَ بالحِجارَة يَقْذِفُ: رَمَى بها ، وقذف المُحْصَنَةَ: رَماها بِزَنْيَةٍ .
تعريف القذف اصطلاحاً :
عند الحنفية : رمي المحصن بالزنا والاتهام به .
عند المالكية : الرمي بالزنا أو اللواط .
عند الشافعية : الرَّمْيُ بِالزِّنَا تَعْيِيرًا .
عند الحنابلة : هو الرمي بزنا أو لواط أو شهادة به من زنا أو لواط ولم تكمل البينة .
دليل تحريمه وحديته : الأصل في تحريم القذف الكتاب والسنة:
فأما الكتاب فقول الله تعالى: {واَلَّذِينَ يَرمْوُنَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُنَ الْمُحْصَنَاتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وأما السنة : فقول النبي *: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله , والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
أثر الشبهة في درء حد القذف :
كما يظهر معنا من تعريف القذف بأنه رمي محصنٍ بتهمة الزنا أو اللواط تعييراً أو نفى نسبه عنه ولم تكن هناك بينةٌ على صحة القذف أو أنها غير مكتملةٍ وفي تفحصنا لكتب فقه المذاهب المختلفة لم نجد مناقشتهم لصورة الشبهة في درء الحد عن القذاف ، وبمفهوم ما بينه لنا العلماء من صور الشبهة وتطبيقاتها وأقسامها كأن ترد شبهة في الفعل أو المحل أو الجهة أو الفاعل ، وقد بين الفقهاء بعض الصور في حالة القذف وناقشوا أحكامها قد تدخل في باب الشبهة وهي كما يلي :
الصورة الأولى : إن قذف الوالد ولده وإن سفل ، فقد ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأصحاب الرأي وقول لمالك بأنه لا يحق للولد المطالبة بالحد فلا يحد الوالد لقذف ابنه فالقذف كالقصاص فكما يمنع استيفاء القصاص من الوالد لقتله ولده لعلة الأبوة فكذلك القذف وإقامة الحد يخالف خفض الجناح والإحسان للأبوين والوصية بهما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} وقال :{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} .
بينما ذهب الإمام مالك – في القول الثاني – وأبو ثور وابن المنذر وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والظاهرية بأنه يلزمه الحد والأبوة لا تمنع من إقامة الحد لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .
الصورة الثانية : وهي أن يقذف الرجل أم ابنه فإنه يلزمه الحد إن طلبت المرأة ذلك وفي حالة وفاتها قبل استيفاء الحد فإن الحد في هذه الصورة يسقط ولا يورث خلاف الحقوق المالية ، ما لم يكن لها ولد آخر من غيره فيحق له المطالبة بإقامة الحد لقذف أمه ، وهذا قول أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وقول لمالك .
وفي القول الثاني للإمام مالك وبه قال أبو ثور والظاهرية بأن الحد لا يسقط ويلزمه سواءً ماتت قبل الاستيفاء أو بعده فللولد المطالبة به ، وفي تصوري أنا كاتب هذا البحث فإن هذه الصورة لا تعمل إلا بعد فسخ عقدة الزوجية لأن القذف بين الأزواج تعالجه أحكام اللعان في الشريعة.
الصورة الثالثة : القذف باللواط : فعند المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية يعتبر قذفاً ويلزمه الحد لأن اللواط مساوٍ للزنا عندهم فأشبه القذف باللواط القذف بالزنا ، بينما ذهب الحنفية بأنه ليس بقذف ويلزمه التعزير .
الصورة الرابعة : إذا قال الرجل لزوجته: يا زانية ، فردت عليه : بك زنيت ، وهنا لا حد باتفاق لوجود شبهة التصديق ، ومثاله كأن يقول رجلٌ لآخر يا سارق ، فيرد عليه: معك سرقت ، فيحتمل التكذيب والتصديق .
وهنا أكرر ما استنتجته سابقاً وهو عدم إمكانية تطبيق أحكام القذف بين الأزواج لوجود أحكامٍ تفصيليةٍ أخرى تحكم هذه المسألةَ وهي أحكامُ اللعانِ إلا في حال الامتناعِ عن الملاعنةِ فهنا يمكن انطباق هذه الصورة .
المطلب السابع
أثر الشبهة في حد السرقة
تعريف السرقة لغة :
• وفي القاموس المحيط : سَرَقَ منه الشيءَ يَسْرِقُ سَرَقاً، مُحرَّكةً ، واسْتَرَقَهُ: جاءَ مُسْتتِراً إلى حِرْزٍ، فأَخَذَ مالاً لِغَيْرِهِ.
• وفي مقاييس اللغة : السين والراء والقاف أصلٌ يدلُّ على أخْذ شيء في خفاء وسِتر. قال سَرَقَ يَسْرق سَرِقَةً ، والمسروق سَرَقٌ.
تعريف السرقة اصطلاحاً :
عرفها الحنفية :أنها أخذُ مكلفٍ نصابَ القطعِ خفيةً مما لا يتسارع إليه الفسادُ من المال المتمول للغير من حرزٍ بلا شبهة .
وعرفها المالكية : أنها أخذ مكلفٍ حرٍ مالاً محترماً لغيره نصاباً من حرزه ، بقصدٍ واحدٍ ، خفيةً ، لا شبهةَ له فيه .
وعرفها الشافعية : هي أخذ المال خفية ظلماً من حرز مثله بشروط .
وعرفها الحنابلة : هي أخذ مالٍ محترمٍ وإخراجه من حرزٍ مثله لا شبهةَ له فيه على وجه الاختفاء .
وعرفها الظاهرية : بأنها الاختفاء بأخذ شيءٍ ليس له .
دليل التحريم والحدية :
قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، ومن السنة النبوية المطهرة حديث أمنا عائشة g قالت : أنَّ قريشًا أهمَّهم شأنُ المرأةِ المخزوميَّةِ التي سرقت ، في عهدِ النبيِّ *، في غزوةِ الفتحِ ، فقالوا : من يُكلِّمُ فيها رسولَ اللهِ *؟ فقالوا : ومن يجترئُ عليه إلا أسامةُ بنُ زيدٍ ، حِبُّ رسولِ اللهِ *؟ فأتى بها رسولَ اللهِ *، فكلَّمه فيها أسامةُ بنُ زيدٍ . فتلوَّنَ وجهُ رسولِ اللهِ *. فقال ( أتشفعُ في حدٍّ من حدودِ اللهِ ؟ ) فقال له أسامةُ : استغفِرْ لي . يا رسولَ اللهِ ! فلما كان العشيُّ قام رسولُ اللهِ * فاختطبَ ، فأثنى على اللهِ بما هو أهلُه ، ثم قال ( أما بعد ، فإنما أهلك الذين مَن قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيفُ ، أقاموا عليه الحدَّ . وإني ، والذي نفسي بيدِه ، لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت لقطعتُ يدَها ) ثم أمر بتلك المرأةِ التي سرقتْ فقُطعَتْ يدُها .
أثر الشبهة في درء حد السرقة :
من المقرر في الشرع أن الحدود تدرأ بالشبهات كما بيَّنا سابقاً ، فأيما شبهة أُدخِلَتْ في عدم قيام الإنسان بالسرقة تُسقِطُ الحدَ عنه ، ونذكر الآن بعض صور الشبهة التي تدرأ الحد في جريمة السرقة كما يلي :
• وجود سبب من أسباب الإباحة :
1. فيما لو سرق مالاً له مملوكاً له بالشراكة مع الغير فلا حد عليه لوجود شبهة التملك .
2. لو سرق الوالد مال ولده فلا حد عليه لوجود شبهة التملك لحديث رسول الله * السابق تخريجه (( أنت ومالك لأبيك)).
• السرقة لحاجة أو جوع : فهذه شبهة اتفق الفقهاء على درئها للحد وقد جاء الأثر أن عمر بن الخطاب أبطل حد السرقة في عام الرمادة حين انتشر الجوع بين الناس فجعلها عمرٌ شبهةً اسقط بها الحد، إلا أن الحد لا يسقط عنه إن كان مستغنٍ ولا حاجة به.
• فيما لو سرق عبدٌ فعلى القاضي النظر في حاله مع سيده فإن كان يطعمه ويشبعه ويكسيه فعليه الحد ، وإن كان غير ذلك فهذه شبهة أسقطت عنه الحد وذلك لفعل عمر بن الخطابZ في غلمان حاطب بن أبى بلتعة فعن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن حاطب أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقةً لرجلٍ من مزينةَ ، فأُتيَّ بهم عمرZ ، فأقروا ، فأرسلْ إلى عبدِ الرحمن بن حاطبٍ فجاء فقال له : إن غلمانَ حاطبٍ سرقوا ناقةَ رجلٍ من مزينةَ وأقروا على أنفسِهم ، فقال عمر : يا كثيرُ بن الصلتِ اذهبْ فاقطعْ أيديهم ، فلما ولى بهم ردهم عمرٌ ثم قال : أما واللهِ لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدَهم لو أكل ما حرمَ اللهُ عليهِ حل له لقطعت أيديهم ، وايم الله إذا لم أفعل لأغرمنَّكَ غرامةً توجعكَ ، ثم قال : يا مُزنيّ بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال : بأربعمئة ، قال عمر : اذهب فأعطه ثمانيمئة .
• فيما لو كان المسروق محرماً كمن يسرق خمراً فلا قطع فيه باتفاق ولكن ينظر إلى الإناء التي احتوت الخمر وتقوَّم فإن بلغت قيمتها نصاباً لزم السارق الحد وهذا رأي مالك والشافعي والزيدية والظاهرية ، وخالفهم أحمد بن حنبل فالحد لديه يثبت ولو كان المسروق مباحاً أو غير مباحٍ .
• إذا كان المسروق غير محترماً : فيرى مالك والشافعي والزيدية أن لا حد فيها ويعزر الفاعل بخلاف أحمد الذي اثبت الحد ولو كان المسروق غير محترم ووافقه في ذلك الظاهرية.
• اختلاف العلماء في صفة الحرز ومن أمثلته الحديثة : السيارة وما بداخلها فمنهم من جعلها حرزاً لها ولما في داخلها ما لم تكن مفتحةَ الأبواب ، ومنهم من لم يجعلها حرزاً سواء فتحت أبوابها أو أغلقت .
• أن يكون المكان ليس حرزاً بالنظر لشخص السارق ولكنه حرزٌ على الغير ومثاله : كمن يسرق من بيت أحد محارمه ، وقد ذهب أبو حنفية بعدم الحد في ذلك لأن ما بينهما من قرابة تمنع النكاح ، وتبيح النظر ، وتوجب النفقة وعلى هذا ، فإنها تشبه قرابة الولادة ، أما بقية الفقهاء فيرون القطع ولا شبهة في ذلك شريطة أن تكون درجة القرابة لا تمنع شهادة أحدهما لصاحبه .
• سرقة أحد الزوجين من مال الآخر: يرى الإمام أبو حنيفة وفي قولٍ للإمام الشافعي أنه إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر[/SIZE]