" محماس " يحاضر في جامعة العلوج
عبد الرحمن بن عبدالعزيز الحويل
بادية التربية
في الصحراء القاحلة وتحت درجة حرارة عالية يمكن أن يغلي من جرائها الماء دوت صرخة الحياة من بين أرجاء خيمة قابعة بين الجبال المحاطة بالهضاب والتلال الرملية. ودوت فرحة عارمة بين أبناء بادية " التربية " بقدوم المولود الأول الذي طال انتظاره لأكثر من سبع سنوات. لقد عمت الفرحة جميع أبناء البادية لأن شيخها " فليحان " محبوب من رعيته إلى درجة أن كثير منهم أصر على المشاركة في تسميته. وقد أجمع جماعة بادية التربية على كرم الشيخ فليحان مما دعاهم للإجماع على تسمية ابنه "محماس".
ترعرع " محماس " في كنف والديه وتولت والدته " رثعا " زرع أهم صفاتها الشخصية المتمثلة في الصدق و وقول الحق والعدل و الحكمة والجرأة وحب المغامرة في حديقة فكر ابنها ونجحت الى حد كبير في هذه الجوانب لكنها لم تكن متحمسة كثيراً للتغيير من عزلته التي ولدت معه وصارت عاملاً مهماً في البحث عن صديق يؤنس وحشته ........
وعبثاً حاول محماس التعايش فكرياً مع أبناء باديته . فــ ( صنيتان ) مولّع دائماً بحلب النياق و ( سداح) يعشق أكل التمر المكسو بطبقة من الدبس بشكل نهم وله من اسمه نصيب, فبمجرد أن تتعلق نفسه بشئ ما فانه يسدحه سدحة قاتلة !! أما ( شليويح ) فمغرم بمطاردة " القعدان " بين الهضاب والكثبان الرملية و ( نهاّش ) يهيم على وجهه في البراري ويعرف بــ " نهاش فتى الجبل والبراري "
أما " شليويح " الذي تقبع خيمة جماعته في أقرب المرابع فلا يعرف من الجماعة سوى صديق العمر
" حنـــش " حيث يتسامران على أنغام الربابة وكلمات القصائد المسلحة في جو مشبع بالرومانسيات ومع أن تقاطيع وملامح " شليويح " تماثل إلى حدٍ ما تجاعيد" بتهوفن " فإنه لا يوجد علاقة بين سيمفونيات الرجلين !!
لقد سئم " محماس " كل المحاولات التي بذلتها والدته للتقريب بينه وبين أبناء البادية فالفارق الفكري آخذ في الإتساع مع تسارع السنين.
حينما شارف عُمر " محماس " على السابعة عشر عزم على الرحيل إلى المدينة بصحبة عمه المشرف على مدرسة الكتاتيب ولم يكن عمه ليرحل معه لولا توسمه النجابة بكل معانيها في شخص الشاب اليافع محماس الذي حفظ وتدبر القرآن الكريم وهو في الثانية عشرة من عمره.
وفي المدينة وجد " محماس " نفسه وأبحر مع خير الجلساء , مع الكتاب ومع المبرزين في ميدان الفكر وأكمل دراسته وتفوق على أقرانه . لم يعد يشعر بالغربة لأنه عقد صداقات صادقة مع مختلف مشارب المعارف في أمهات الكتب. لقد صار علماً يشار إليه بالبنان في مدينة التربية بل أنه وصل إلى درجة التفوق في أحياناً كثيرة على المعلمين أنفسهم، وعندما وقع عليه الإختيار من قبل لجنة البعثات الخارجية لغرض إكمال الدراسة، تردد للوهلة الأولى في إتخاذ القرار الصعب. هل ينام له جفن في غربته وهو يعرف أن البحار والمحيطات ستفصل بينه وبين " فليحان " و " رثعا " والمقربين منه ؟ هل يغامر بفك طلاسم مجتمع " العلوج " ؟
في الطائرة
وبعد تساؤلات كثيرة واجتماعات متنوعة مع الذات تم اتخاذ القرار الصعب عن قناعة تامة.
في اليوم التالي حزم " محماس " حقائبه استعداداً للسفر على طائرة Douglas DS_3
والتي تتسع لــ 26 راكباً فقط حيث تهبط في محطات عده قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة. كانت سجادة الصلاة تتصدر قائمة ما يحتاجه في رحلته الطويلة. قبل صعوده سلم الطائرة ذرفت دمعة ساخنة زادت من حرارة الوداع بينه وبين أبناء جلدته، الكل متأثر.... الكل يقاوم العبرات..... الكل لا يكاد يصدق أن كتلة الخلق الحسن المتمثلة في شخص " محماس " سوف تعانق عنان السماء في رحلة المجهول. لقد أحبه كل من عرفه، وهذا ما جعل قاعة المغادرة تكتظ بالمودعين رغم رحابة مساحتها.
وفي كبينة الطائرة همس من كان يجلس بالقرب من " محماس " في إذنه مشيراً إلى رجل ضخم الجثة كان يجلس في الجانب الأخر من الطائرة (( أبك الدب هذاك يبا يمرجح الطيارة ! وش السوءة يأبن أخي ؟ ))، أبتسم محماس الذي تذكر في الحال أقرانه في بادية التربية ورد بتلقائية (( أبك اطلب منه يتوسط المقاعد لأجل توازن المأخوذة " الطائرة ")).
ومع هدير المحركات وفي لحظة كان يهم ذلك الرجل الأمي بالترجل من مقعده خارت قواه وتسمر في مقعده واخذ يحملق بحسرة تجاه الجانب الآخر من الطائرة حيث يجلس أجثل شخص فيها واخذ يتمتم بكلمات لم يستطيع محماس فك شفرتها، ولكن بعض الآثار المحسوسة والملموسة في وحول مقعد ذلك الرجل كانت تدل على أنه يرغب التوجه إلى دورة المياه !!
وفي موقف آخر,وبينما "محماس" يهم بالجلوس في مقعد مريح في مؤخرة الطائرة , التفت إليه رجل مستشرق أشقر في عقده السادس مرحبا به وقال بلغة عربية فصحى " دعنا نقطع الوقت في شئ مفيد ومسلي, . لدي لغز إذا أجبته أمنحك خمسة5جنيهات وإذا فشلت في إجابته تمنحني مثلها من الجنيهات. ثم يأتي دورك فتسألني وهكذا ! تظاهر محماس" بالنوم" كناية عن عدم رغبته بذلك الأمر. كرر المستشرق طلبه وأضاف " أمنحك خمسون في حالة معرفتك وأنت تمنحني خمسة في حالة معرفتي بحل الغز. موافق ؟ "
لم يكترث " محماس" لهذا العرض ولكن المستشرق كان واثق إلى درجة كبيرة بقدراته في حل الأحاجي والألغاز مما جعله يرفع درجة التحدي بقوله, " أعطيك خمس مائة جنيه إذا تمكنت من حل الغز الذي سوف اطرحه عليك بلهجتك المحلية ولا اخذ منك سوى خمسة في حالة عجزك عن ذلك. موافق ؟ "
كان العرض مغر إلى درجة أن محماس اعتدل في جلسته و نظر نظرة فاحصة إلى وجه الرجل وقال على الفور , " موافق "
كان اللغز :
" وش المدخن اللي نصفه الثاني ما يسبق (القربة) لكنه يسبق الـــــ (الزير) . بالبخل معروف وبا لخبث موصوف "
لم يكد ذلك المستشرق ينهي لغزه حتى بادره " محماس " بالجواب التالي ( أوووه.. النصف الثاني من مدخن { خن } وهذا النصف يسبق { زير} ..نعم ..خبيث وبخيل هما صفتان لـــ *شروان* الذي يتزعم الحكومة الخفية في الرواية الانجليزية" Don't be such a pig" إذا الجواب هو الخنزير !
استحق " محماس " الخمس مائة جنيه لأنه تمكن من حل" الغز الصعب " في نظر المستشرق. فكر " محماس " جيدا عندما حان دوره في طرح لغز يحتمل الكسب أو الخسارة وبادئه قائلا , " ما هو الكائن الحي الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة وجوابه يتكون من عشرة حروف في كلمة واحدة ؟ "
وبعد أن نفذت جميع محاولات المستشرق في الإجابة كان الوقت قد حان للهبوط فتسلم " محماس" قيمة مكتسبات الرهان البالغة ألف جنيه ! وعند سلم الطائرة, سأل المستشرق " محماس" عن حل الغز الغامض. فقال انه لا يعرف الجواب واخرج من جيبه ورقة مالية من فئة الخمسة جنيهات وسلمها على عجل لذلك المستشرق وانصرف !!!
في مدينة توغ العلجية
حطت الطائرة في محطتها الأخيرة عند الساعة السابعة والنصف في يوم شديد البرودة حيث بلغت درجة الحرارة 18 درجة تحت الصفر وكان يوم عاصف ،فالأرصفة والطرقات مكسوة ببساط ثلجي ناصع البياض وكان رذاذ الثلج يتساقط بكثافة على كافة أرجاء مقاطعة " توغ العلجية " كان منظراً غاية في الجمال بالنسبة لمحماس الذي توشح فروه كان قد أهداها له عمه معلم مدرسة الكتاتيب ، كان منظرها ملفت للنظر عند العلوج . والذي زاد منظرها غرابة ذلك الحذاء بالكعب الطويل الذي لا يمكن تصنيعه إلا في بلاد الشرق الأوسط ، فلا توافق بين شكل ولون هذا وذاك !
ونظراً لتبلل معطف _ عفوا !! فروت " محماس " برذاذ المطر، فقد انبعث منها رائحة تماثل رائحة مربط أم القعدان !!
ولحماية نفسه من مزيد من البلل لاذ لأقرب محطة انتظار في مكان يعج بأصناف البشر وجلس يلتقط أنفاسه ويتأمل هذه الكتل البشرية التي تتحرك بانتظام في مسارات تماثل نسيج بيت العنكبوت.
كان يصغي بكل حواسه إلى المحادثات "أي الدردشات الجانبية" آملاً في معرفة مقدار حصيلته اللغوية التي نهلها من كتاب " تعلم اللغة العلجية في خمسة أيام "! ، وبعد إنصات على فترات متقطعة لما يدور من مختلف أصناف الحوارات والمناداة إرتابه الشك في أن تكون لغة الحوار هي العلجية. وكونه فطن وذا حنكة، فقد أدرك في الحال أن إتقان مهارات اللغة لا يمكن اكتسابها بمجرد القراءة لمفردات وتراكيب جمل جافة تفتقر إلى المنهجية في الطرح ، تحسس محماس على إثر ذلك جيوب فروته في بلد الأناقة والجمال وأخرج من إحداها ذلك الكتاب المتهالك وأخذ يتمتم:" خمسة أيام ؟!"
قام " محماس " من مقعده بتثاقل وكانت الأفكار تتلاطم في مخيلته : ترى .... إلى أين المصير ؟ ما هي الطرق المؤدية إلى وسط المدينة ؟ أين سأمكث الليلة ؟ ما لذي جنيته بحق نفسي ؟ وفي غمرة التفكير هذه لاح في الأفق بريق أمل ، لقد لمح يافطة كتب عليها " Downtown " تتوسط مجموعة من وسائل النقل الكبيرة . بحث في كتاب الخمسة أيام عن المعنى فلم يجد ترجمة مناسبة لها سوى " بلدة تحت" فتمتم مرة أخرى " خمسة أيام ! " فرمى الكتاب على قارعة الطريق, وامتلكته الدهشة في الحال عندما شاهد أحد المارة يأخذ الكتاب ويمشي بضع خطوات ثم يضعه في اقرب حاوية للمخلفات !
بعد تردد, وفي خطوة تشبه المغامرة تمتم في نفسه " توكلت على الله " ودلف إلى مقدمة إحدى الحافلات، وما هي إلا دقائق معدودة حتى بدأت الحافلة تشق طريقها متوجهة صوب قلب المدينة النابض. كانت مقدمة الحافلة مخصصة للعجزة أو المرضى ولم يكن " محماس " يدرك أنظمة وقوانين دولة العلوج .
كانت تلك السيدة ( في أوائل العقد السادس من عمرها ) التي تم مساعدتها بالجلوس في المقعد المجاور له ترمقه بين الفينة والأخرى بنظرات فيها تساؤلات عن وضعه الصحي !! وكانت الفرصة سانحة عندما سقطت الحقيبة اليدوية للسيدة تحت المقعد فما كان من محماس إلا المبادرة بتحسسها أسفل المقعد وتسليمها للسيدة بابتسامة فيها رأفة وتسامح .
بادلته السيدة التحية بمثلها وشكرته بلغتها، وأردفت بسؤال عن صحته اعتقاداً منها بأنه يجيد التحدث بتلك اللغة. عندئذٍ تجلت لغة الإشارة . ومع أن النظر إلى الغير في دولة العلوج يعتبر اعتداء على الخصوصيات الشخصية ، فإن من يسرق النظر إليهما يعتقد أنهما أطرشان في زفة !! فقد تفاعلت السيدة المتعلمة مع ما يريد قوله وتفاعل هو الآخر بشكل كبير مع تعابير وجهها المتجعد ويديها شبه المترهلتين ، واستمر هذا التفاعل دون انقطاع طوال فترة الانتقال من المطار إلى وسط المدينة التي بدأت معالمها تظهر للعيان .
كانت المساحات الشاسعة من البساط الأخضر على جانبي الطريق لوحة جمالية تكاد أن تنطق برائحة النسيم العليل الذي يتسلل إلى الحافلة عبر منافذ التهوية فيمتزج على الفور مع رائحة مقصورة الحافلة التي تماثل نسبيا الرائحة التي تنبعث من حمض الفسفورك H3PO4 ! ! فيحصل ما يماثل التفاعل الكيميائي الذي يخفف بدورة حدة التركيز في المقصورة.
وما أن أخذت الحافلة تقترب رويدا رويد من مشارف المدينة الوادعة حتى صارت الأفكار تتلاطم في رأس "محماس" إلى درجة تعطلت معها لغة التواصل بينه وبين تلك السيدة !
وما هي إلا برهة حتى سمع صرير مكابح الحافلة معلنة الوصول إلى محطة "الخرخير" في وسط المدينة. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة إلا ثلثا صباحا. وفي غمرة التفكير تلك, لم يشعر إلا ويده ممسكة بدفء بيد تلك السيدة الأنيقة خارج الحافلة و على قارعة الطريق!
لقد انتاب " محماس" شعورا بأن تلك السيدة بحاجة فعلية إلى سماحته وبساطته وأحس بدفء في انجذابها نحوه بدد من برودة الجو الذي لم يعتاده . لم يقف حاجز اللغة دون تحقيق غايات الطرفين : ف" محماس" قد امسك بخيط الأمل الذي قد يقوده إلى تخفيف معانة الغربة في يومه الأول على الأقل , وأما السيدة المحترمة في تعاملها فيبدوا أنها تريد التعرف عن قرب على سر هذا النوع من العطف المفقود على نحو كبير في مجتمعها، وقد تكون أيضا مغرمة بزيارة المتاحف التي في العادة تحوي مالا يمكن مشاهدته في الأماكن العامة " فروة محماس "!!
كانت تبتسم كلما وقعت عيناها على عينيه وكأنما تريد التعبير عن مدى سعادتها بالمعاملة التي تحضى بها من هذا الشاب الذي توشح رداء التعاليم السماوية المتمثلة في سلوكه المعنون ب " الدين المعاملة " كان يخيل إليها أنه يخشى عليها حتى من الريح مما جعلها لا تتردد في دعوته إلى مصاحبتها إلى حيث مقر سكنها. وفي الطريق, , طرق الأمان أركان جوانحه فشعر " محماس " في الحال براحة نفسية تعطلت معها مشاعر القلق وتمتم في نفسه يقول " إنها دعوات والدتي وكل من أحببني وحسبي أنني لم ولن اكره أحدا في حياتي حتى من قد يسئ إلي" .
طلبت السيدة سيارة أجرة وأخذا يتبادلان لغة الإشارة في المقعد الخلفي في سيارة الأجرة التي تقلهما إلى منزلها حيث بادرت السائق بعنوان منزلها مكتوبا على قصاصة ورقة. ولم يأبها بنظرات الفضول التي كان يرمقهما بها سائق التاكسي بين الفينة والأخرى, بل إن الأمر وصل بكليهما إلى حد القهقهة عندما يستعصى الأمر على احدهما فهم لغة الإشارة من الطرف الأخر! مما زاد فضول السائق الذي توجه بسؤال السيدة عما إذا كانت تعشق مثل ذلك الجو البارد ومن فرط سعادتها مع " محماس" تظاهرت بأنها لا تفهم سوى لغة الإشارة وأخذت تؤدي حركات مضحكة شبه لا إرادية مما جعل السائق نفسه ينساق معهما إلى رفع حرارة القهقهة إلى درجة كادت أن تفقده السيطرة على مقود السيارة في أحد المنعطفات التي تقود إلى منزل السيدة Carole" " .
كان ذلك كفيل بخفض إيقاع الصخب النسبي داخل سيارة التاكسي التي توقفت بعد بضع دقائق عند بوابة البناية الشاهقة في قلب مدينة ""Tour . أراد محماس أن يتولى إنزال الحقائب من سيارة الأجرة وبينما كان يهم بذلك جاء من ابتسم في وجهه وتولى المهمة عنه.
مع السيدة كارول
لم يكن باستطاعة " محماس " إخفاء اندهاشه للمشاهد والمناظر وبعض أدوات التقنية في مرافق تلك البناية. كان ممسكا بيدها عند المدخل الرئيسي وكان السلم الكهربائي على بضع خطوات منهما وبينما كانا يهمان بالتوجه إليه ومن ثم إلى الدور الأول حيث المصاعد الكهربائية حدث ما لم يكن في الحسبان ! كان لخطوات محماس وهو يمشي إيقاع ملفت للنظر نتيجة احتكاك حذاءه ذو الكعب الطويل بالأرضية الرخامية ولو وقف الأمر عند هذا الحد لكان حسنا , ولكن زلت قدم المسكين فطار حذاءه متوجها صوب السلم وقام على الفور وهو يرمقه سابقا إياه إلى أعلى " يالله الخيرة " قالها وهو ينظر إلى وجه السيدة Carole التي لم تتمكن يدها اليمنى من إخفاء ضحكتها ! ثم التفت يمينا ويسارا ضنا منه أن الناس من حوله هم صنف من الفضوليين, فلاحظ خلاف ذلك-- الكل ساع في حال سبيله. وبمثل حنان الأم على ابنها أمسكت السيدة بيده وهي لا تزال تضحك وتضحك وكأن هستيريا القهقهة في سيارة الأجرة قد عاودها. لم يكن تصرفها ذلك سوى تعبير عن تأكيد رغبة جامحة منها في بناء جسور من الألفة بينها وبين هذا الشاب المنبهر بالحضارة المادية للعلوج .
في الدور الأول , وجد احدهم يناوله الحذاء بابتسامة فيها كثير من الأدب, فقال محماس في نفسه " باليت بعض قومي يعلمون , والله إنها لبعض تعاليم ديني"
. شكرت " Carole " الرجل نيابة عن محماس وتوجهت معه صوب أقرب مصعد بعد أن ربط حذاءه وضغطت على الرقم المؤدي إلى الدور الرابع والعشرين .كانت معظم الأشياء التي شاهدها ملفتة للنظر و تمثل تعريف مبدئي لطبيعة هذا المجتمع الذي يعج بأصناف المتناقضات.
مع أن التعب والإرهاق قد نال منهما منالا, فقد قاوما نظرا لطبيعة المواقف الدرامية التي تعرضوا لها وهي ما ساعد فعلا على ترطيب الجو و إضفاء نوع من المتعة الصاخبة !
عند توقف المصعد في الدور 24 ولدى خروجهما منه توجها فورا عبر ممر أنيق إلى حيث تسكن Carole.لم يكن "محماس " مستقرا ذهنيا لكونه لم يتناول بعد جرعة أدمن عليها. لا , ليست الهروين أو المراوانة أو الحشيش أو ما في شاكلتهم . إنها جرعة الهدوء و الطمأنينة والسكينة وتهذيب الوجدان ...نعم , لقد كان هذا هاجسه منذ أن وطأة قدماه ارض مطار العلوج , كان يتوق
لا داء الواجب ( الصلاة ) و لمناجاة الإله في مكان يسوده السكون وكان يتبع السيدة على استحياء مستعجلا الأمر مع أن الإيحاءات المتتالية منها فيها دعوة له للانطلاق والتعبير عن ألذات بحرية.
مع أن محماس بأدبه الجم قد جامل السيدة المضيفة فأن ذلك لم يكن على حساب معتقداته ومبادئه. فعندما طرقت Carole باب الشقة رقم 14 بادرها صوت من الداخل " السيدة كارول؟ ", " نعم, افتحي Shirley " . ففتح الباب ومن خلفه شابة شقراء لم تتجاوز السابعة عشر ربيعا وطولها يتناسب تماما مع بنيتها وعلى قدر صارخ من الجمال وتحمل بين إحدى يديها هرة وديعة يعلو وبرها بلل من الماء عندما تراها تحسبها درة من حسن مظهرها. كان جزء كبيرا من ملابس الفتاة مبلل بالماء أيضا مما يدل على أنها كانت تقوم بعمل له علاقة بالغسيل أو التنظيف.
رحبت الفتاة بسيدتها ولكنها تراجعت إلى الوراء بشكل لا إرادي عندما وقعت عيناها على ابن بادية التربية ! عادت على الفور للداخل لإكمال المهام الموكلة لها وتركت الاثنين وشأنهما. كان في قسمات وجه محماس ما يوحي بسيل عارم من الأسئلة عن كل ما تقع عليه عيناه من الاداوات الكهربائية والوسائل الالكترونية والتقنيات السلكية واللاسلكية وبينما كانا في نهاية جولته في أرجاء المنزل وقعت عيناه على غرفة نوم صغيرة ومرتبة بشكل جميل يدعو إلى الدهشة وتفوح فيها رائحة عطر زكية وفي احد أركانها شاهد ما لم يكن في الحسبان . لقد شاهد حقيبته! فتذكر على الفور أهم محتوياتها . إنها سجادة الصلاة. عندها طلب الإذن من السيدة في الاسترخاء لفترة نظرا لكونه مرهقا ويحتاج إلى الراحة ولكونها مدركة تماما حاجته للراحة بعد عناء السفر فقد طلبت منه الإذن في إحضار شئ من الأكل قبل أن يخلد للنوم ,وبعد إلحاح منها رضخ لطلبها بعد أن فهم منها أن الفتاة سوف تحضر له الطعام بعد بضع دقائق.وما أن ودعته حتى هب إلى حقيبته واخرج سجادة الصلاة واجتهد في تحديد القبلة بعد أن أتم وضوءه وشرع في أداء فريضته. لم تمض بضع دقائق حتى شعر بخطوات تقترب رويدا رويد من باب غرفته المشرع وتدنو أكثر فأكثر منه وهو في التشهد الأخير من الصلاة .
عندما شاهدت الفتاة وهي تحمل الطعام بين يديها "محماس" على الوضع الذي يعتبر غريب عليها , نادته " الطعام جاهز سيدي. هل ترغب تناوله هنا ؟ " وكانت تشير إلى إحدى الطاولات الصغيرة في الغرفة. كررت ذلك مرة أخرى ولم تتلقى إجابة منه لكونه لم يتم صلاته بعد. فعادت على الفور إلى حيث كانت سيدتها , " سيدتي, يبدوا أن ضيفك مريض جدا ,حدثته فلم يجب وهو الآن جالس هناك بلا حراك ويبدوا انه لا يستطيع حتى الالتفات ! " تماسكت السيدة "كارول" نفسها ونهضت بشكل نشط رغم تعبها على نحو لم تألفه نفسها أو الفتاة التي تقوم على خدمتها وتوجهت فورا إلى الغرفة المعدة لمحماس. عندما دخلتا الغرفة كان الشاب الورع قد انتهى للتو من التشهد الأخير, ولكنه لم يزل على شبه الوضع الذي شاهدته الفتاة عليه. " يا الهي, هل أنت بخير ؟ " قالتها السيدة كارول لفظيا مع أنها تدرك عدم فهمه للغة للمرة الأولى . كان تصرفا لا إراديا نتيجة لما سمعت من الفتاة. بادرها محماس بابتسامة عريضة وقال بصوت جميل ومخارج حروف رائعة"Oh! Nothing. I'm ok "". نعم. فهذا الشاب البدوي يملك عقل يتوقد ذكاء, وقد التقط هذه الإجابة من مجرد سماعه للقاء الذي دار بين السيدة وفتاتها. لم يكن هناك متسعا من الوقت لشرح تفاصيل الكيفية التي تتم بها أداء الفرائض ولكنه استطاع إفهامهما نسبيا بما كان يعمل. بانت أسارير البهجة على وجه السيدة كارول حيث التفتت على فتاتها وهي تبتسم بسمة ملؤها الرضاء وتبادلتا نفس الابتسامة مع "محماس" الذي شرع في تناول الطعام بيديه ! وبعد مداعبات حنونة طابعها الأمومة من كارول لــــــ "محماس" ودعته على أن يأخذ قسطا من النوم وبعدها لكل حادث حديث .
استيقظ محماس عند الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي حيث كان الظلام لا يزال يسدل ستائره ولكن الإضاءة الخافتة داخل الغرفة جعلته قادرا على تمييز الأشياء من حوله فوجد بجوار فراشه سلة من الفواكه التي لم يراها في حياته. وفي سكون وهدوء تامين دلف إلى دورة المياه فلاحظ أن الأدوات والمناشف السابقة قد تم استبدالها بأخرى جديدة.
خرج بعد برهة متجها لأداء صلاة الصبح وبعد قضاءها شرع في تلاوة بعض من سور القران الكريم عن ظهر قلب واستمر على هذا المنوال حتى بزوغ الصبح. وفي لحظة تأمل واسترخاء, وفيما كان تفكيره منصبا على وجوب استغلال وقت هذا اليوم الجديد في انجاز ما يتعلق بسكنه ودراسته, سمع ما يدل على بعض التجهيزات في المطبخ وغرفة الطعام . ولم تمض بضع دقائق حتى جاء من طرق باب غرفته برفق متناهي. فتح محماس الباب وكان يرتدي نفس الملابس التي ارتداها منذ إقلاعه من بادية التربية ما عدا تلك الفروة الغليظة فقد علقها في احد جوانب الغرفة كلوحة جمالية! ولكن الشئ الذي كان يميزه هذه المرة هو لمعان شعر رأسه بشكل ملفت جدا للنظر. لقد وضع عليه نوع من الكريم المخصص للبشرة !
يتبع .............